فصل: تفسير الآيات رقم (65- 68)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 60‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ‏(‏54‏)‏ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ‏(‏55‏)‏ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏57‏)‏ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى‏}‏ يعني‏:‏ أجعله في خاصة نفسي‏.‏ فلما خرج يوسف من السجن، ودّع أهل السجن، ودعا لهم، وقال‏:‏ اللهم اعطف قلوب الصالحين عليهم، ولا تستر الأخبار عنهم‏.‏ فمن ثمة تقع الأخبار عند أهل السجن، قبل أن تقع عند عامة الناس‏.‏ ولما دخل يوسف على الملك وكان الملك، يتكلم سبعين لساناً، فأجابه يوسف بذلك كله‏.‏ ثم تكلم يوسف بالعبرانية، فلم يحسنها الملك، فقال‏:‏ ما هذا اللسان يا يوسف‏؟‏ قال‏:‏ هذا لسان آبائي إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب عليهم السلام‏.‏

ثم كلمه بالعربية، فلم يحسنها الملك‏.‏ فقال‏:‏ ما هذا اللسان‏؟‏ فقال‏:‏ لسان عمي إسماعيل ‏{‏فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ‏}‏ أي‏:‏ قال له الملك ‏{‏مَّكِينٍ‏}‏ في المنزلة ‏{‏أَمِينٌ‏}‏ على ما وكلتك‏.‏ قَالَ له يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏اجعلنى على خَزَائِنِ الارض‏}‏ يعني‏:‏ على خراج مصر ‏{‏إِنّى حَفِيظٌ‏}‏ للتدبير‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏حَفِيظٌ‏}‏ بما وكلت به ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بجميع الألسن‏.‏ ويقال‏:‏ عليم بأخذها، ووضعها مواضعها‏.‏ وإنما سأل ذلك صلاحاً للخلق، لأنه علم أنه ليس أحد يقوم بإصلاح ذلك الأمر مثله‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏حَفِيظٌ‏}‏ يعني‏:‏ عليماً بساعة الجوع‏.‏ وكان الملك يأكل في كل يوم نصف النهار‏.‏ فلما كانت الليلة التي قضى الله بالقحط، أمر يوسف بأن يتخذ طعام الملك بالليل‏.‏ فلما أصبح الملك، قال‏:‏ الجوع الجوع‏.‏ فأتي بطعام مهيئ‏.‏ قال‏:‏ وما يدريكم بذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ أمرنا بذلك يوسف‏.‏ ففوض الملك أموره كلها إلى يوسف، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ‏}‏ يعني‏:‏ صنعنا ليوسف ‏{‏فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ أرض مصر ‏{‏يَتَبَوَّأُ مِنْهَا‏}‏ يعني‏:‏ ينزل منها ‏{‏حَيْثُ يَشَاء‏}‏‏.‏ قرأ ابن كثير ‏{‏حَيْثُ نَشَاء‏}‏ بالنون يعني‏:‏ حيث يشاء الله‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالياء ‏{‏حَيْثُ يَشَاء‏}‏ يوسف ‏{‏نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء‏}‏ نختص بنعمتنا، النبوة، والإسلام، والنجاة من نشاء ‏{‏وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ يعني‏:‏ لا نبطل ثواب الموحدين، حتى نوفيّه جزاءه في الدنيا، ومع ذلك له ثواب في الآخرة، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَجْرُ الاخرة خَيْرٌ‏}‏ يعني‏:‏ ثواب الآخرة أفضل مما أعطي في الدنيا ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ أي‏:‏ صدقوا بوحدانية الله تعالى ‏{‏وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ الشرك‏.‏

وروي في الخبر، أن زوج زليخا مات‏.‏ وبقيت امرأته زليخا‏.‏ فجلست يوماً على الطريق، فمر عليها يوسف في حشمه‏.‏ فقالت زليخا‏:‏ الحمد لله الذي جعل العبد ملكاً بطاعته، وجعل الملك مملوكاً بشهوته، وتزوجها يوسف فوجدها عذراء، وأخبرت أن زوجها كان عنيناً، لم يصل إليها‏.‏ ثم وقع القحط بالناس حتى أكلوا جميع ما في أيديهم، واحتاجوا إلى ما عند يوسف‏.‏

وقد كان يوسف جمع في وقت الخصب، مقدار ما يكفي السنين المجدبة للأكل والبيع، فجعل الناس يعطونه أموالهم، العروض، والرقيق، والعقار، وغير ذلك‏.‏ ويأخذون منه الطعام‏.‏ ووقع القحط بأرض كنعان، حتى أصاب آل يعقوب الحاجة إلى الطعام‏.‏ فقال يعقوب لبنيه‏:‏ إنهم يزعمون أن بمصر ملكاً يبيع الطعام، فخرج بنو يعقوب وهم عشرة نحو مصر، حتى أتوا يوسف فدخلوا عليه، وعليه زي الملك فلم يعرفوه، وعرفهم يوسف وكلموه بالعبرانية، فأرسل يوسف إلى الترجمان، وهو يعلم لسانهم‏.‏ ولكنه أراد أن يشتبه عليهم، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ عرف يوسف أنهم إخوته ‏{‏وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لم يعرفوا أنه يوسف‏.‏ لأنهم رأوه في حال الصغر، وكان يوسف على زي الملوك، بخلاف ما كانوا رأوه في الصغر‏.‏

روى أسباط عن السدي وغيره، قال‏:‏ استعمله الملك على مصر، وكان صاحب أمره الذي يلي البيع والتجارة‏.‏ فبعث يعقوب بنيه إلى مصر فلما دخلوا على يوسف، عرفهم‏.‏ فلما نظر إليهم، قال‏:‏ أخبروني ما أمركم‏؟‏ فإني أنكر شأنكم‏.‏ قالوا‏:‏ نحن قوم من أرض الشام‏.‏ قال‏:‏ فما جاءكم‏؟‏ قالوا‏:‏ جئنا نمتار طعاماً‏.‏ قال‏:‏ كأنكم عيون‏.‏ كم أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ عشرة‏.‏ قال‏:‏ أنتم عشرة آلاف‏.‏ كل رجل منكم أمير ألف‏.‏ فأخبروني خبركم‏.‏ قالوا‏:‏ إنا إخوة بنو رجل، صديق، وإنا كنا اثني عشر، فكان أبونا يحب أخاً لنا، وهو هلك في الغنم، ووجدنا قميصه ملطخاً بالدم، فأتينا به أبانا، فكان أحبنا إلى أبينا منا‏.‏ قال‏:‏ فإلى من سكن منكم أبوكم بعده‏؟‏ قالوا‏:‏ إلى أخ له أصغر منه‏.‏ قال‏:‏ فكيف تخبروني أنه صديق، وهو يختار الصغير منكم دون الكبير‏؟‏ وكيف تخبروني أنه هلك، وبقي قميصه‏؟‏ فلو‏:‏ كان اللصوص قتلوه، لأخذوا قميصه، ولو كان الذئب أكله، لمزق قميصه‏.‏ فأرى كلامكم متناقضاً‏.‏ احبسوهم‏.‏ ثم قال‏:‏ إن كنتم صادقين في مقالتكم، فخلفوا عندي بعضكم، واتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه ‏{‏فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ‏}‏ قالوا‏:‏ اختر أينا شئت، فارتهن شمعون، ثم أمر بوفاء كيلهم، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ كال لهم كيلهم، وأعطى كل واحد منهم حمل بعير، ثم ‏{‏قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين‏}‏ يعني‏:‏ أفضل من يضيف، ويكرم الذي نزل به ‏{‏فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بالأخ ‏{‏فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى‏}‏ فيما تستقبلون ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُونِ‏}‏ يعني‏:‏ ولا تستقبلوا إليَّ مرة أخرى، فإني لا أعطي لكم الطعام‏.‏ قال الزجاج‏:‏ القراءة بالكسر يعني‏:‏ بكسر النون وهو الوجه‏.‏ ويجوز ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُونِ‏}‏ بفتح النون، لأنها نون الجماعة كما قال‏:‏ ‏{‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى على أَن مَّسَّنِىَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 54‏]‏ بفتح النون‏.‏ قال‏:‏ ويكون ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُونِ‏}‏ لفظه لفظ الخبر، ومعناه‏:‏ النهي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 64‏]‏

‏{‏قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏ قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ‏}‏ يعني‏:‏ سنطلب من أبيه أن يبعثه معنا ‏{‏وَإِنَّا لفاعلون‏}‏ يعني‏:‏ لصانعون ذلك فنطلبه من أبيه ليبعثه ويقال‏:‏ وإنا لضامنون ذلك ‏{‏وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية حفص ‏{‏لِفِتْيَانِهِ‏}‏ بالألف والنون وقرأ الباقون ‏{‏***لِفِتَيْتِهِ‏}‏‏.‏ فقال أهل اللغة‏:‏ الفتيان والفتية بمعنى واحد، وهم الغلمان والخدم‏.‏ يعني‏:‏ قال يوسف لغلمانه وقومه الذين يكيلون يعني الطعام ‏{‏واجعلوا *** بضاعتهم فِى رِحَالِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ دسوا دراهمهم في رحالهم‏.‏ يعني‏:‏ في جواليقهم ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا‏}‏ يعني‏:‏ يعرفون كرامتي عليهم ‏{‏إِذَا انقلبوا‏}‏ يعني‏:‏ إذا رجعوا ‏{‏إلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ الثانية‏.‏ قال الفراء‏:‏ فيها قولان‏.‏ أحدهما أن يوسف خاف ألا يكون عند أبيهم دراهم، فجعل البضاعة في رحالهم، لعلهم يرجعون، ولا يتأخرون عن الرجوع بسبب الدراهم‏.‏ والقول الآخر‏:‏ أنهم إذا عرفوا بضاعتهم، وقد اكتالوا الطعام، ردوها عليه، ولا يستحلون إمساكها، لأنهم أنبياء الله تعالى، لا يستحلون إمساك مال الغير ‏{‏فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا *** أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل‏}‏ فيما نستقبل يعني‏:‏ الحنطة، وأخبروه بالقصة‏.‏ قالوا‏:‏ ‏{‏فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا‏}‏ بنيامين ‏{‏نَكْتَلْ‏}‏ يعني‏:‏ يشتري هو، ويكيلون لنا ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ من الضيعة حتى نرده إليك‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏***يَكْتَلْ‏}‏ بالياء‏.‏ وقرأ الباقون بالنون‏.‏ فمن قرأ بالياء، يعني‏:‏ هو يكتال لنفسه، لأنهم كانوا لا يبيعون من كل رجل إلا وقراً واحداً‏.‏ ومن قرأ بالنون، فمعناه‏:‏ أن الملك قد أخبر أنه لا كيل لنا في المستقبل‏.‏ فلو أرسلته معنا، فإنا نكتال منه، فلما أخبروه بذلك ‏{‏وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ‏}‏ يعقوب عليه السلام ‏{‏هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ هل أئتمنكم عليه ‏{‏إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ‏}‏ يوسف ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ ومعناه‏:‏ هكذا قلتم لي في أمر يوسف، ولا أقدر أن آخذ عليكم من العهد أكثر ما أخذت عليكم في يوسف من قبل‏.‏ قرأ ابن مسعود‏:‏ هل تحفظونه إلا كما حفظتم أخاه يوسف من قبل ‏{‏فالله خَيْرٌ حافظا‏}‏ منكم إن أرسله معكم ‏{‏وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ حين أطعته ولا بد أن أرسله قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ‏{‏حافظا‏}‏ بالألف‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏حافظا‏}‏ بغير ألف، والحافظ الاسم، والحفظ‏:‏ المصدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 68‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم‏}‏ يعني‏:‏ أوعيتهم وجواليقهم ‏{‏وَجَدُواْ بضاعتهم‏}‏ يعني‏:‏ دراهمهم ‏{‏رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ‏}‏ لأبيهم ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا مَا نَبْغِى‏}‏ يعني‏:‏ ما نكذب‏.‏ إنه ألطف علينا وأكرمنا ‏{‏هذه بضاعتنا‏}‏ أي‏:‏ دراهمنا ‏{‏رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا‏}‏ يعني‏:‏ نمتار لأهلنا‏.‏ يقال‏:‏ مار أهله، وأمار لأهله، إذا حمل إليهم قوتهم من غير بلده‏.‏ يعني‏:‏ ابعثه معنا، لكي نحمل الطعام لأهلنا ‏{‏وَنَحْفَظُ أَخَانَا‏}‏ من الضيعة ‏{‏وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ‏}‏ أي‏:‏ حمل بعير من أجله‏.‏

روى الأعمش عن إبراهيم، عن علقمة، أنه كان يقرأ ‏{‏رُدَّتْ إِلَيْنَا‏}‏ بكسر الراء، لأن أصله رددت‏.‏ فأدغمت إحدى الدالين بالأخرى، ونقل الكسر إلى الراء وهي قراءة شاذة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ سريع، لا حبس فيه إن أرسلته معناه ويقال‏:‏ ذلك أمر هين الذي نسأل منك‏.‏

‏{‏وَقَالَ‏}‏ لهم يعقوب ‏{‏لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله‏}‏ يعني‏:‏ تعطوني عهداً وثيقاً من الله ‏{‏لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ إلا أن ينزل بكم أمر من السماء، أو من الأرض‏.‏ وروى معمر عن قتادة أنه قال‏:‏ إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ تهلكوا جميعاً‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إلا أن يأتيكم من أمر الله تعالى ما يعذركم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أعطوه عهودهم ‏{‏قَالَ‏}‏ يعقوب ‏{‏الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ‏}‏ يعني‏:‏ كفيلاً‏.‏ ويقال‏:‏ شهيداً‏.‏

ثم‏:‏ ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ *** بَنِى *** لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ‏}‏ قال يعقوب لبنيه، حين أرادوا الخروج‏:‏ يا بني لا تدخلوا من باب واحد‏.‏ يعني‏:‏ إذا دخلتم مصر، فلا تدخلوا من سكة واحدة، ومن طريق واحد؛ ويقال‏:‏ من درب واحد ‏{‏وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ من سكك متفرقة، ومن طرق شتى‏.‏ لكي لا يظن بكم أحد، أنكم جواسيس‏.‏ ويقال‏:‏ خاف يعقوب عليهم العين لجمالهم، وقوتهم، وهم كلهم بنو رجل واحد‏.‏ فإن قيل‏:‏ أليس هذا بمنزلة الطيرة، وقد نهي عن الطيرة قيل له‏:‏ لا‏.‏ ولكن أمر العين حق‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقي من العين، ويتعوذ منها للحسن والحسين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله‏}‏ يعني‏:‏ من قضاء الله ‏{‏مِن شَئ إِنِ الحكم‏}‏ يعني‏:‏ ما القضاء ‏{‏أَلاَ لِلَّهِ‏}‏ إن شاء أصابكم العين، وإن شاء لم يصبكم‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ يعني‏:‏ فوضت أمري، وأمركم إليه ‏{‏وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون‏}‏ يعني‏:‏ فليثق الواثقون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم‏}‏ من السكك المتفرقة ‏{‏مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مّنَ الله مِن شَئ‏}‏ يعني‏:‏ حذرهم لا يغني من قضاء الله من شيء‏.‏

يعني‏:‏ إن العين لو قدرت أن تصيبهم، لأصابتهم وهم متفرقون، كما تصيبهم وهم مجتمعون ‏{‏إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ‏}‏ يعني‏:‏ حزازة في قلبه، وهي الحزن ‏{‏قَضَاهَا‏}‏ يعني‏:‏ أبداها، وتكلم بها‏.‏ ويقال‏:‏ معناه لكن لحاجة في نفس يعقوب قضاها ‏{‏وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ‏}‏ يعني‏:‏ علم يعقوب أنه لا يصيبهم إلا ما أراد الله تعالى، وقدر عليهم‏.‏ وعلم أن دخولهم في سكك متفرقة، لا ينفعهم من قضاء الله تعالى من شيء‏.‏ ويقال‏:‏ معناه أنه عالم بما علمناه‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ‏}‏ أي‏:‏ لتعليمنا إياه‏.‏ ويقال‏:‏ لذو حظ لما علمناه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنه لا يصيبهم إلا ما قدر الله تعالى عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 76‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ‏(‏71‏)‏ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏75‏)‏ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ‏}‏ يعني‏:‏ إخوته ‏{‏اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ‏}‏ يعني‏:‏ ضمّ إليه أخاه بنيامين ‏{‏قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ أخبره في السر أنه أخوه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لم يخبره‏.‏ ولكن معناها‏:‏ إني لك كأخيك الهالك‏.‏ فأنزلهم يوسف منزلاً، وأجرى عليهم الطعام والشراب، فلما كان الليل أتاهم بالفرش، وقال‏:‏ لينام كل أخوين منكم على فراش واحد‏.‏ ففعلوا‏.‏ وبقي الغلام وحده فقال يوسف‏:‏ هذا ينام معي على فراشي‏.‏ فبات معه يوسف، يشم ريحه‏.‏ ويقال‏:‏ لما كان عند الطعام، أمر كل اثنين ليأكلا في قصعة واحدة، وبقي بنيامين وحده، فبكى وقال‏:‏ لو كان أخي في الأحياء، لأكلت معه‏.‏ فقال له يوسف‏:‏ إني أنا أخوك، يعني‏:‏ بمنزلة أخيك ‏{‏فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ يقول‏:‏ لا تحزن بما يعيرون يوسف، وأخاه بشيء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ كال لهم كيلهم ‏{‏جَعَلَ السقاية‏}‏ يعني‏:‏ وضع ودس الإناء ‏{‏فِى رَحْلِ أَخِيهِ‏}‏ بنيامين، فخرجوا، وحملوا الطعام، وذهبوا‏.‏ فخرج يوسف على أثرهم، حتى أدركهم ‏{‏ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ‏}‏ يعني‏:‏ نادى منادٍ بينهم، واسم المنادي أفرايم من فتيان يوسف‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ‏}‏ إناء الملك، فانقطعت ظهورهم، وساء ظنهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ وأقبلوا إليهم ‏{‏مَّاذَا تَفْقِدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ماذا تطلبون ‏{‏قَالُواْ‏}‏ يعني‏:‏ قال النادي والغلمان ‏{‏نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك‏}‏ قال قتادة‏:‏ إناء الملك الذي يشرب فيه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هو إناء من فضة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه، وكانت الأعاجم تشرب فيه‏.‏ وروى سعيد بن حبير، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان إناء من فضة مثل المكوك، وكان للعباس واحد منها في الجاهلية‏.‏ وروي عن أبي هريرة أنه قرأ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الملك‏}‏ يعني‏:‏ الصاع الذي يكال به الحنطة‏.‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الملك‏}‏‏.‏ وقرأ يحيى بن عمرو ‏{‏وَقَالَ الملك‏}‏ بالغين‏.‏ يعني‏:‏ إناء مصوغاً‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏صُوَاعَ الملك‏}‏ يعني‏:‏ الإناء وهي المشربة من فضة‏.‏ وكان الشرب في إناء الفضة مباحاً في الشريعة الأولى‏.‏ وأما في شريعتنا، فالشراب في إناء الفضة حرام‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ‏}‏ يعني‏:‏ قال المنادي‏:‏ من جاء بالصوع، فله حمل بعير من بر، ‏{‏وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ أنا كفيل بتسليمها إليه، لأن الملك يتهمني في ذلك‏.‏

‏{‏قَالُواْ تالله‏}‏ يعني‏:‏ قال إخوة يوسف والله ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ ما جئنا لنعمل بالمعاصي في أرض مصر، ونخون أحداً‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا سارقين‏}‏ وكان الحكم في أرض مصر للسارق الضرب والتضمين، وكان الحكم بأرض كنعان، أنهم يأخذون السارق، ويسترقونه، ففوضوا الحكم إلى بني يعقوب، ليحكموا بحكم بلادهم ‏{‏قَالُواْ‏}‏ يعني‏:‏ المؤذن وأصحابه لأولاد يعقوب ‏{‏فَمَا جَزَاؤُهُ‏}‏ يعني‏:‏ فما جزاء السارق ‏{‏إِن كُنتُمْ كاذبين *** قَالُواْ‏}‏ يعني‏:‏ إخوة يوسف ‏{‏جَزَاؤُهُ‏}‏ يعني‏:‏ عقابه ‏{‏مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ في وعائه ‏{‏فَهُوَ جَزَاؤُهُ‏}‏ يعني‏:‏ الاستعباد جزاء سرقته ‏{‏كذلك نَجْزِى الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ هكذا نعاقب السارق في سنة آل يعقوب‏.‏

‏{‏فَبَدَأَ‏}‏ يعني‏:‏ المنادي، ويقال‏:‏ يوسف ‏{‏بِأَوْعِيَتِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ أوعية إخوته، وطلب في أوعيتهم ‏{‏قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ‏}‏ فلم يجد فيها‏.‏ وروى معمر عن قتادة أنه قال‏:‏ كلما فتح متاع رجل، استغفر الله تائباً مما صنع، حتى بقي متاع الغلام، فقال‏:‏ ما أظن هذا أخذ شيئاً، قالوا‏:‏ بلى، فاستبرأه، فطلب، فوجد فيه، فاستخرجها من وعاء أخيه، فلما استخرجت من رحله، انقطعت ظهور القوم، وتحيروا، وقالوا‏:‏ يا بنيامين لا يزال لنا منكم بلاءً ما لقينا من ابني راحيل‏.‏ فقال بنيامين‏:‏ بل ما لقي ابنا راحيل منكم، فأما يوسف فقد فعلتم به ما فعلتم، وأما أنا فسرقتموني‏.‏ قالوا‏:‏ فمن جعل الإناء في متاعك‏؟‏ قال‏:‏ الذي جعل الدراهم في متاعكم‏.‏ فسكتوا‏.‏ فذلك قوله ‏{‏ثُمَّ استخرجها مِن وِعَاء أَخِيهِ كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ‏}‏ يعني‏:‏ كذلك صنعنا ليوسف، والكيد‏:‏ الحيلة‏.‏ يعني‏:‏ كذلك احتلنا له وألهمناه الحيلة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك‏}‏ يعني‏:‏ في قضاء ملك مصر، لأنه لم يكن في قضائه أن يستعبد الرجل في سرقته‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ يعني‏:‏ وقد شاء الله أن يأخذه بقضاء أبيه‏.‏ ويقال‏:‏ ما كان يقدر أن يأخذ في ولاية الملك بغير حكم، إلا بمشيئة الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ إلا أن يشاء الله ذلك ليوسف‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء‏}‏ يعني‏:‏ من نشاء بالفضائل‏.‏ وقرأ أهل الكوفة ‏{‏نَرْفَعُ درجات‏}‏ بتنوين التاء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏درجات مَّن نَّشَاء‏}‏ بغير تنوين، على معنى الإضافة ‏{‏وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ ليس من عالم إلا وفوقه أعلم منه، حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى‏.‏ وروى وكيع، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب، أن رجلاً سأل علياً عن مسألة‏.‏ فقال فيها قولاً‏.‏ فقال الرجل‏:‏ ليس هو كذا، ولكنه كذا‏.‏ فقال‏:‏ عليّ أصبتَ وأخطأت ‏{‏وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير، أن ابن عباس حدث بحديث، فقال‏:‏ رجل عنده‏:‏ الحمد لله ‏{‏وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ إن الله هو العالم وهو فوق كل عالم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 81‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ إِن يَسْرِقْ‏}‏ يعني‏:‏ قال إخوة يوسف‏:‏ إن يسرق بنيامين ‏{‏فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏ يعنون يوسف ‏{‏فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ‏}‏ يعني فأضمر الكلمة يوسف ‏{‏فِى نَفْسِهِ‏}‏ أي في قلبه ‏{‏وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لم يعلن لهم جواباً ‏{‏قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً‏}‏ يعني‏:‏ صنيعاً من يوسف، لأن يوسف سرق الوثن، وأنتم تسرقون الصواع‏.‏ وذلك أن يوسف كان سرق صنماً من ذهب من خاله لاوي وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أنه سرق صنماً، كان لجده أب أمه‏.‏ فعيّروه بذلك‏.‏ فقال‏:‏ أنتم شر مكاناً، لأن سرقتكم قد ظهرت، وسرقة أخيه لم تظهر إلا بقولكم، ولا ندري أنتم صادقون في مقالتكم أم لا‏.‏ ‏{‏والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بما تقولون‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ عوقب يوسف ثلاث مرات‏:‏ حين هَمَّ، فسجن‏.‏ وحين قال‏:‏ ‏{‏اذكرنى عِندَ رَبّكَ فَلَبِثَ فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ‏}‏ وحين قال‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ‏}‏ فردوا عليه، وقالوا‏:‏ فقد سرق أخ له من قبل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا *** أَيُّهَا *** العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا‏}‏ يعني‏:‏ ضعيفاً حزيناً على ابن له مفقود ‏{‏فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ‏}‏ رهناً ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ إن فعلت ذلك إلينا، فقد أحسنت إلينا الإحسان كله‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ يعني‏:‏ من أتاك من الآفاق فأحسن إلينا ف ‏{‏قَالَ مَعَاذَ الله‏}‏ يعني‏:‏ أعوذ بالله ‏{‏أَن نَّأْخُذَ‏}‏ رهناً ‏{‏إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لظالمون‏}‏ لو أخذنا غيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ من بنيامين أن يرد عليهم ويقال أيسوا من الملك أن يقضي حاجتهم ‏{‏خَلَصُواْ نَجِيّا‏}‏ يعني‏:‏ اعتزلوا، يتناجون بينهم، ليس معهم غيرهم‏.‏ ‏{‏قَالَ كَبِيرُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ كبيرهم في العقل، وهو يهوذا‏.‏ ولم يكن أكبرهم في السن‏.‏ وهذا في رواية الكلبي، ومقاتل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏كَبِيرُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أعلمهم وهو شمعون‏.‏ وكان رئيسهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏كَبِيرُهُمْ‏}‏ في السن روبيل، وهو الذي أشار إليهم ألا يقتلوه ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله‏}‏ يعني‏:‏ عهداً من الله في هذا الغلام ‏{‏لَتَأْتُنَّنِى بِهِ‏}‏ أي‏:‏ لتردنه إليَّ ‏{‏وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ‏}‏ يعني‏:‏ ما تركتم، وضيعتم العهد في أمر يوسف من قبل هذا الغلام ‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الارض‏}‏ يعني‏:‏ فلن أزال في أرض مصر ‏{‏حتى يَأْذَنَ لِى *** رَبّى‏}‏ أي‏:‏ حتى يبعث إليَّ أحداً أن آتيه ‏{‏أَوْ يَحْكُمَ الله لِى‏}‏ فيرد عليّ أخي بنيامين ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين‏}‏ يعني‏:‏ أعدل العادلين، وأقضى القاضين‏.‏

وروى أسباط، عن السدي‏.‏ أنه قال‏:‏ كان بنو يعقوب إذا غضبوا، لن يطاقوا‏.‏ فغضب روبيل، فقال‏:‏ أيها الملك، والله لتتركنا أو لأصيحن صيحة، لا تبقى امرأة حامل، إلا ألقت ما في بطنها، وقامت كل شعرة في جسده، فخرجت من ثيابه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان يهوذا إذا غضب، وصاح، لم تسمع صوته امرأة حامل، إلا وضعت حملها، وتقوم كل شعرة في جسده‏.‏ فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه، فيسكن‏.‏ فقال يوسف لابن له صغير‏:‏ اذهب وضع يدك عليه، فذهب ووضع يده عليه، فسكن غضبه، فقال‏:‏ إن في هذا الدار أحداً من آل يعقوب‏.‏

ثم قال لإخوته‏:‏ ‏{‏ارجعوا إلى أَبِيكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قال يهوذا ‏{‏فَقُولُواْ يأَبَانَا *** أَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ‏}‏ أي‏:‏ سرق الصواع، يعني‏:‏ إناء الملك‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ‏{‏سَرَقَ‏}‏ بضم السين وكسر الراء مع التشديد، يعني‏:‏ اتهم بالسرقة ‏{‏وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا‏}‏ أي‏:‏ وما قلنا إلا ما رأينا حين أخرج من رحله ‏{‏وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين‏}‏ يعني‏:‏ وما كنا نرى أنه سرق، ولو علمنا ما ذهبنا به‏.‏ ويقال‏:‏ إنا لم نطلع على أنه سرق ولكنهم سرقوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 84‏]‏

‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏‏}‏

قوله تعالى؛ ‏{‏واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ أهل القرية‏.‏ قال الكلبي‏:‏ وهي قرية من قرى مصر‏.‏ ويقال‏:‏ هي مصر بعينها‏.‏ ويقال‏:‏ هو المنزل المؤذن فيه، إنكم لسارقون ‏{‏والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ سل أهل العير الذين كانوا معنا من أرض كنعان ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ في قولنا‏.‏ فرجعوا إلى يعقوب بذلك القول، فاتهمهم، فقال‏:‏ كلما خرجتم من عندي، نقصتم واحداً، ذهبتم مرة، فنقصتم يوسف‏.‏ وذهبتم مرة، فنقصتم شمعون‏.‏ وذهبتم الآن، ونقصتم بنيامين‏.‏ فقد صرتم كالذئاب، يأكل بعضهم بعضاً‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ‏}‏ قال يعقوب اشتهت، وزينت لكم قلوبكم ‏{‏أمْراً‏}‏ فصنعتموه ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ يعني‏:‏ عليّ صبر جميل، حسن، من غير جزع، لا أشكو فيه إلى أحد ‏{‏عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا‏}‏ يعني‏:‏ لعل الله أن يرد عليّ يوسف، ويهوذا، وبنيامين ‏{‏إِنَّهُ هُوَ العليم‏}‏ بمكانتهم ‏{‏الحكيم‏}‏ أن يردهم عليّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتولى عَنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أعرض عن بنيه وخرج عنهم ‏{‏وَقَالَ يأَبَتِ *** دَخَلُواْ على يُوسُفَ‏}‏ يعني‏:‏ يا حزناً، والأسف‏:‏ أشد الحسرة ‏{‏وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن‏}‏ يعني‏:‏ من البكاء ‏{‏فَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ مغموماً، مكروباً، يتردد الحزن في جوفه‏.‏ والكظيم والكاظم بمعنى واحد مثل القدير والقادر‏.‏ وهو المتمسك على حزنه، لا يظهره، ولا يشكوه‏.‏ وروي عن الحسن أنه قال‏:‏ مكث يعقوب ثمانين سنة، ما تجف دموعه، ولا يفارق قلبه الحزن يوماً، وما كان على الأرض يومئذٍ أحد أكرم على الله منه‏.‏ قال‏:‏ وألقي يوسف في الجب، وهو يومئذٍ ابن سبع سنين، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعدما جمع الله شمله ثلاثاً وعشرين سنة‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ غاب يوسف عنه اثنين وعشرين سنة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ ما أعطيت أمة من الأمم ‏{‏الذين إِذَآ أصابتهم مُّصِيبَةٌ قالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏ غير هذه الأمة، ولو كان أوتيها أحد قبلكم لأوتيها يعقوب حين قال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ‏}‏ وروي عن إبراهيم بن ميسرة أنه قال‏:‏ لو أن الله أدخلني الجنة، لعاتبت يوسف بما فعل بأبيه، حيث لم يكتب إليه، ولم يعلمه حاله، ليسكن ما به من الغم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 89‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ تالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ‏}‏ يعني‏:‏ لا تزال تذكر يوسف ‏{‏حتى تَكُونَ حَرَضاً‏}‏ أي‏:‏ دنفاً من الوجع‏.‏ ويقال‏:‏ حتى تبلى وتهرم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ لا تحذف من الكلام، ويراد إثباتها، لقوله‏:‏ ‏{‏***تفتؤ‏}‏ أي‏:‏ لا تزال‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏تَالله تَفْتَأُ‏}‏ وكقول ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ ترفعوا أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أعمالكم وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 2‏]‏ أي‏:‏ أن لا تحبط‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ حتى تكون بالياً، يابس الجلد، وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حتى تكون حرضاً يعني‏:‏ لا عقل لك ‏{‏أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين‏}‏ يعني‏:‏ من الميتين‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الحرض ما دون الموت والهالك الميت ‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى‏}‏ يعني‏:‏ همي وغمي ‏{‏إِلَى الله‏}‏ لما رأى من فظاظتهم، وسوء لفظهم، ولا أشكو ذلك إليكم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ البث أشد الحزن، إنما سمي الحزن البث، لأن صاحبه لا يصبر عليه، حتى يبثه أي‏:‏ يفشوه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أن يوسف حي، وليس بميت‏.‏ وإنما كان يعلم ذلك من تحقيق رؤيا يوسف، حين رأى في المنام أحد عشر كوكباً، أن ذلك سيكون‏.‏ ويقال‏:‏ إن يعقوب رأى ملك الموت في المنام، وسأله هل قبضت روح قرة عيني يوسف‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ ولكن هو في الدنيا حي، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُونَ يبَنِىَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ‏}‏ يعني‏:‏ انطلقوا إلى مصر، فاطلبوا خبر يوسف ‏{‏وَأَخِيهِ‏}‏ قالوا له‏:‏ أما بنيامين فلا نترك الجهد في أمره، وأما يوسف فإنه ميت، وإنا لا نطلب الأموات‏.‏ فقال لهم يعقوب‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله‏}‏ يعني‏:‏ لا تقنطوا من رحمة الله ‏{‏يبَنِىَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن‏}‏ يعني‏:‏ الجاحدون للنعمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ رجعوا إلى يوسف، ودخلوا عليه ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا *** أَيُّهَا *** العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر‏}‏ يعني‏:‏ أصابنا، وأهلنا الجوع ‏{‏وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ‏}‏ قال الحسن يعني‏:‏ قليلة‏.‏ ويقال‏:‏ نفاية‏.‏ وكان لا يؤخذ في الطعام، ويؤخذ في غيره، لأن الطعام كان عزيزاً‏.‏ فلا يؤخذ فيه إلا الجيد‏.‏ وعن عبد الله بن الحارث في قوله‏:‏ ‏{‏وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ‏}‏ قال‏:‏ متاع الأعراب الصوف، والسمن، ونحو ذلك‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ يعني جئنا بدراهم رديئة‏.‏ وقال سعيد بن جبير بدراهم زيوف ‏{‏فَأَوْفِ لَنَا الكيل‏}‏ يعني‏:‏ أتمم لنا الكيل ‏{‏وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا‏}‏ يعني‏:‏ تفضل علينا باستيفائه منا، مكان الجيد، وتصدق علينا، ما بين الثمنين‏.‏ يعني‏:‏ ما بين الجيد والرديء ‏{‏إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين‏}‏ يعني‏:‏ يثيبهم في الآخرة بما صنعوا‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ لو علموا أنه مسلم، لقالوا‏:‏ إن الله يجزيك بالصدقة‏.‏ يعني‏:‏ إنه كان يلبس عليهم، فلا يعرفون حاله، ومذهبه‏.‏ فأخرج يوسف الكتاب الذي كان كتبه يهوذا حين باعوا يوسف، ودفعه إليهم، فعرف يهوذا خطه، وقالوا‏:‏ نحن بعنا هذا الغلام، إذ كنا نرعى الغنم‏.‏ فقال لهم‏:‏ ظلمتم، وبعتم الحر‏.‏ فدعا يوسف السيافين، وأمر بإخوته بأن يقتلوا جميعاً، فاستغاثوا كلهم، وصرخوا، وقالوا‏:‏ إن لم ترحمنا، فارحم الشيخ الضعيف‏.‏ فإنه قد جزع على ولد واحد، فكيف وقد أهلكت أولاده كلهم‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم يوسف ‏{‏هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون‏}‏ يعني‏:‏ شابون، مذنبون، ووصف لهم ما فعلوا به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 93‏]‏

‏{‏قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ‏}‏ قرأ ابن كثير ‏{‏إِنَّكَ لاَنتَ‏}‏ بهمزة واحدة، وكسر الألف‏.‏ يعني‏:‏ حققوا أنه يوسف‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، وابن عامر‏:‏ ‏{‏أَءنَّكَ‏}‏ بهمزتين على معنى الاستفهام‏.‏ يعني‏:‏ إنك يوسف أم لا‏؟‏ وقرأ نافع وأبو عمرو، ‏{‏***آينك‏}‏ بهمزة واحدة مع المد‏.‏ ومعناه‏:‏ مثل الأول على معنى الاستفهام ‏{‏يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِى قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا‏}‏ يعني‏:‏ أنعم علينا بالصبر ‏{‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ‏}‏ أي‏:‏ يتق الله ‏{‏وَيِصْبِرْ‏}‏ على البلاء ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ أي‏:‏ ثواب الصابرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ تالله لَقَدْ اثَرَكَ الله عَلَيْنَا‏}‏ يعني‏:‏ إخوة يوسف اعتذروا إليه، وقالوا‏:‏ لقد فضلك الله علينا، واختارك ‏{‏وَإِن كُنَّا لخاطئين‏}‏ يقول‏:‏ وقد كنا لعاصين لله فيما صنعنا بك ‏{‏قَالَ‏}‏ يوسف عليه السلام ‏{‏لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم‏}‏ يعني‏:‏ لا تعيير عليكم اليوم، ولا عيب، ولا عار عليكم، وأصل التثريب‏:‏ الإفساد‏.‏ ويقال‏:‏ أثربت الأمر علينا إذا أفسدت‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَغْفِرَ الله لَكُمْ‏}‏ فيما فعلتم ‏{‏وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ من غيره‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏اذهبوا بِقَمِيصِى هذا‏}‏ وروي عن وهب بن منبه قال‏:‏ كان القميص من الجنة‏.‏ وهو القميص الذي ألبس جبريل إبراهيم، حين ألقي في النار، فبردت عليه النار، فصار عند إسحاق، ثم صار عند يعقوب، فجعله يعقوب في عوذة، وعلقه في عنق يوسف، فكان معه حين ألقي في الجب، ونزع عنه القميص، فبشره جبريل، وألبسه عي ألج، وكان القميص معه، وقال لإخوته‏:‏ ‏{‏اذهبوا بِقَمِيصِى هذا‏}‏ ‏{‏فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا‏}‏ وذلك أنه سألهم، فقال‏:‏ ما فعل أبي بعدي‏؟‏ قالوا‏:‏ لما فارقه بنيامين، عمي من الحزن‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏اذهبوا بِقَمِيصِى هذا‏}‏ فألقوه على وجه أبي، يأت بصيراً، كما كان أول مرة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَائْتُونِي بَأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ فاختلفوا فيما بينهم‏.‏ فقال كل واحد منهم‏:‏ أنا أذهب به‏.‏ فقال يوسف‏:‏ يذهب به الذي ذهب بقميصي الأول‏.‏ فقال يهوذا‏:‏ أنا ذهبت بالقميص الأول، وهو ملطخ بالدم، وأخبرته بأنه قد أكله الذئب، وأنا اليوم أذهب بالقميص، فأخبره أنه حي، وأفرحه، كما أحزنته‏.‏ وأمر لهم بالهدايا، والدواب، والرواحل، فتوجهوا نحو كنعان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 98‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ‏(‏97‏)‏ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ‏}‏ يعني‏:‏ خرجت العير من مصر ‏{‏قَالَ أَبُوهُمْ إنَّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لما خرجت العير، هاجت ريح، فجاءت بريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال، فقال يعقوب‏:‏ إني لأشم ريح يوسف ‏{‏لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُون‏}‏ يقول لولا أن تعيروني، وتجهلوني‏.‏ يقال‏:‏ فنده الهرم إذا خلط في كلامه ‏{‏قَالُوا تَالله إنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ‏}‏ يعني‏:‏ ولد ولده قالوا ليعقوب‏:‏ إنك مختلط في الكلام كما كنت في القديم من ذكر يوسف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ‏}‏ يعني‏:‏ جاء يهوذا بالبشارة ‏{‏أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ‏}‏ يعني‏:‏ دفع القميص إليه، ووضعه على وجهه، ‏{‏فَارْتَدَّ بَصِيراً‏}‏ يعني‏:‏ رجع بصيراً كما كان ‏{‏قَالَ‏}‏ يعقوب لولد ولده ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إنَّي أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ويقال‏:‏ قال لولده‏:‏ ألم أقل لكم حين قلت لكم‏:‏ ‏{‏إنَّمَا أشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أن يوسف في الأحياء ‏{‏قَالُوا يا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ فاعتذروا إليه، فيما فعلوا به، وطلبوا منه أن يستغفر لهم، واعترفوا بذنبهم، وقالوا‏:‏ ‏{‏إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ‏}‏‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم يعقوب عليه السلام ‏{‏سَوْفَ اسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي‏}‏ يعني‏:‏ عند السحر استغفر لكم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه سوف استغفر لكم إن شاء الله على وجه التقديم في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ الله آمِنِينَ‏}‏، فأخّر الاستغفار، إلى أن قدموا مصر، فاستغفر لهم ليلة الجمعة عند السحر ‏{‏إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ لمن تاب، ورجع، وندم على ما فعل، فخرجوا كلهم بأثقالهم، وأهاليهم، ومواشيهم، وكانوا اثنين وسبعين رأساً، وروى أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ كان أهل بيت يعقوب حين دخلوا مصر، ثلاثة وسبعين إنساناً، رجالهم ونساؤهم، فخرجوا مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً، فلما دنوا من مصر، خرج يوسف بجماعته وحاشيته حتى أدخلهم مصر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ ضمّ إليه ‏{‏أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ الله آمِنِينَ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هذا من كلام يعقوب، حيث قال‏:‏ سوف استغفر لكم إن شاء الله‏.‏ وكذلك قال ابن جريج‏.‏ ويقال‏:‏ هذا من كلام يوسف‏.‏ قال لهم حين دخلوا مصر‏:‏ انزلوا بأرض مصر‏.‏ ويقال‏:‏ إنما قال لهم قبل أن يدخلوها ‏{‏ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين‏}‏ من الجوع‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏آمنين‏}‏ من الخوف، لأنها أرض الجبابرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ أَبَويْهِ عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ يعني‏:‏ على السرير‏.‏ أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني أباه وخالته‏.‏ وكانت أمه راحيل قد ماتت، وخالته تحت يعقوب، وعن وهب بن منبه قال‏:‏ أبوه وخالته‏.‏ وعن سفيان الثوري مثله، وهو قول ابن عباس‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الخالة أم»‏.‏ ويقال‏:‏ إن أمه راحيل قد ماتت في ولادة بنيامين‏.‏ ولذلك سمي بنيامين، واليامين وجع الولادة بلسانهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً‏}‏ على وجه التقديم، يعني‏:‏ ‏{‏وخرُّوا له سجداً‏}‏ ورفع أبويه على العرش، وكانت تحيتهم، أن يسجد الوضيع للشريف، فسجد له إخوته، وأبوه، وخالته، ‏{‏وَقَالَ‏}‏ يعني يوسف عند ذلك ‏{‏يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ هذا السجود تحقيق رؤياي من قبل ‏{‏قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً‏}‏ يعني‏:‏ جعل رؤياي صدقاً‏.‏ ويقال‏:‏ كائناً‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان بين رؤياه، وبين ذلك، اثنان وعشرون سنة‏.‏ وروى أبو عثمان النهدي، عن سلمان أنه قال‏:‏ كان بين رؤياه، وبين أن رأى تأويلها، أربعون سنة‏.‏ وعن عبد الله بن شداد أنه قال‏:‏ وقعت رؤيا يوسف بعد أربعين سنة، وإليه تنتهي الرؤيا‏.‏ وقال السدي‏:‏ كان بينهما تسع وثلاثون سنة‏.‏ وقال‏:‏ حين رأى رؤياه، كان يوسف ابن تسع سنين، فظهر تأويلها وهو ابن أربعين سنة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَني مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ‏}‏ يعني‏:‏ جاء بكم معافين، سالمين من البادية‏.‏ يعني‏:‏ أرض كنعان و‏{‏مِنْ بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ‏}‏ يعني‏:‏ من بعد أن أفسد وألقى الشيطان ‏{‏بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ‏}‏ من الفرقة، والجماعة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لطيف‏}‏ في فعاله، إن شاء فرق، وإن شاء جمع ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ‏}‏ بما صنعوا ‏{‏الْحَكِيمُ‏}‏ إذ رد عَليّ أبي، وجمع بيني وبين إخوتي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ‏}‏ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله‏:‏ إن الله تعالى مدح يوسف في هذه السورة، في ثمانية مواضع‏.‏ أولها أن أخوته لما فعلوا به ما فعلوا، صرف العداوة من إخوته إلى الشيطان‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشيطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوِتِي‏}‏ والثاني‏:‏ حين راودته المرأة، قال‏:‏ ‏{‏إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ‏}‏ فعرف حرمة سيده، ولم يهتك حرمته‏.‏ الثالث ‏{‏قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ‏}‏ فاختار السجن على الشهوة الحرام‏.‏

والرابع قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ‏}‏ بعد ما ظهر أن الذنب كان من غيره‏.‏

والخامس لما اعتذر إليه إخوته، قال لهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ‏}‏ والسادس أنه بعث القميص على يد إخوته كما أدخلوا على أبيهم الحزن في الابتداء، أراد أن يدخلوا عليه السرور‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا‏}‏ والسابع‏:‏ لما لقي أباه، لم يذكر عنده ما لقي من الشدة، وإنما ذكر المحاسن، حيث قال‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِّنَ البَدْوِ‏}‏‏.‏

والثامن‏:‏ لما تمّ أمره، تمنى الموت، وترك الدنيا، قال‏:‏ ‏{‏رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ‏}‏ أي‏:‏ أعطيتني من الملك‏.‏ يعني‏:‏ بعض الملك، وهو ملك مصر ‏{‏وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ‏}‏ يعني‏:‏ بعض التأويل‏.‏ ويقال‏:‏ من ههنا لإبانة الجنس، لا للتبعيض‏.‏ ومعناه ‏{‏رب قد آتيتني من الملك وعلمتني تأويل الأحاديث‏}‏ يعني‏:‏ تعبير الرؤيا ‏{‏فَاطِر السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ يعني‏:‏ خالق السموات والأرض ‏{‏أَنْتَ وَلِييِّ فِي الدُّنْيَا وَاْلآخِرَة تَوَفَّنِي مُسْلِماً‏}‏ يعني‏:‏ أمتني مخلصاً بتوحيدك ‏{‏وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ يعني‏:‏ بآبائي المرسلين‏.‏ ويقال‏:‏ عاش يعقوب في أرض مصر، سبع عشرة سنة، وكان عمره مائة وسبعاً وأربعين سنة‏.‏ وعاش يوسف بعده ثلاثاً وعشرين سنة، ومات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة‏.‏ ويقال‏:‏ ابن مائة وعشر سنين‏.‏ وأوصى يعقوب بأن يدفن عند آبائه، فحمل إلى الأرض المقدسة، فدفن مع أخيه يحصوص بن إسحاق‏.‏ فلما مات يوسف، أرادوا أن يحملوه إلى الأرض المقدسة، فلم يتركهم أهل مصر، واختلفوا في دفنه، وأراد أهل كل محلة أن يدفن في مقابرهم، وكاد أن يقع بينهم قتال، حتى اصطلحوا واتفقوا على أن يدفن عند قسمة مياههم في أعلى مصر، لكي يصيب بركته أهل مصر، وكان هناك إلى زمن موسى عليه السلام، فرفعه موسى، وحمله إلى الأرض المقدسة، ووضعه عند آبائه، وقد كان يوسف أوصى إلى بني إسرائيل أن يحملوا عظامه من أرض مصر إذا خرجوا من مصر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 108‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ‏}‏ يقول‏:‏ من أخبار ما غاب عنك، علمه يا محمد ‏{‏نُوحِيهِ إِلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ ننزل عليك جبريل بالقرآن، ليقرأه عليك ‏{‏وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ عند إخوة يوسف ‏{‏إذْ أجْمَعُوا أمْرَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قولهم أن يطرحوا يوسف في البئر ‏{‏وَهُمْ يَمْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يحتالون ليوسف‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصَتْ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ في الآية تقديم‏.‏ ومعناه‏:‏ وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت لعلم الله السابق فيهم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏ولو حرصت بمؤمنين‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ من قدرت عليه الكفر، وعلمت أنه أهل لذلك‏.‏ لا يؤمن بك‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَسْألُهُمْ عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ على الإيمان ‏{‏مِنْ أَجْرٍ‏}‏ يعني‏:‏ إن لم يجيبوك، فلا تبال، لأنهم لا ينقصون من رزق ربك شيئاً ‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ يعني‏:‏ ما هذا القرآن ‏{‏إلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏}‏ من الجن والإنس‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ وكم من علامة ‏{‏فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ‏}‏ يعني‏:‏ الشمس والقمر والنجوم، وفي الأرض الأمم الخالية، والأشياء التي خلقت في الأرض، ‏{‏يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ‏}‏ يعني‏:‏ مكذبين، لا يتفكرون‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ولئن سألتهم من خلقهم، ليقولن الله، فهذا إيمان منهم‏.‏ ثم هم يشركون به غيره‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الإيمان قد يكون في معان‏.‏ فمن الإيمان تصديق، وتكذيب ببعض‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏ يعني‏:‏ مقرون أن الله خالقهم، وهم مع ذلك يجعلون لله شريكاً‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كانوا مشركين في تلبيتهم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ يعلمون أنه ربهم، وهم مشركون به من دونه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنُوا‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة ‏{‏أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ مغشاهم العذاب، ويقال‏:‏ غاشية قطعة ‏{‏مِنْ عَذَابِ الله‏}‏ في الدنيا ‏{‏أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً‏}‏ يعني‏:‏ فجأة ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بقيامها ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏هَذِهِ سَبِيلي‏}‏ يعني‏:‏ هذه الملة، ديني الإسلام، ويقال‏:‏ هذه دعوتي ‏{‏أدْعُوا‏}‏ الخلق ‏{‏إلَى الله‏}‏ تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ أدعوكم إلى توحيد الله وعبادته ‏{‏عَلَى بَصِيرَةٍ‏}‏ أي‏:‏ على يقين وحقيقة‏.‏ ويقال‏:‏ على بيان ‏{‏أنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏}‏ يعني‏:‏ من اتبعني على ديني، فهو أيضاً على بصيرة ‏{‏وَسُبْحَانَ الله‏}‏ تنزيهاً لله عن الشرك ‏{‏وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ‏}‏ على دينهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ الأنبياء كانوا من الآدميين، ولم يكونوا من الملائكة‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏نُوحِي إلَيْهِمْ‏}‏ بالنون‏.‏ وقرأ الباقون بالياء ‏{‏يُوحَى إِلَيْهِمْ‏}‏، ومعناهما واحد ‏{‏مِنْ أهْلِ الْقُرَى‏}‏ يعني‏:‏ منسوبين إليها‏.‏ ثم أمرهم بأن يعتبروا، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا‏}‏ يعني‏:‏ يسافروا ‏{‏فِي الأَرْضِ‏}‏ ويقال‏:‏ يقرؤوا القرآن ‏{‏فَيَنْظُرُوا‏}‏ يعني‏:‏ يعتبروا ‏{‏كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ كيف كان آخر المنذرين من قبلهم من الأمم الخالية ‏{‏وَلَدَارُ الآخِرَةِ‏}‏ وهي الجنة ‏{‏خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا‏}‏ الشرك ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أن الآخرة أفضل من الدنيا‏.‏ ثم رجع إلى حديث الرسل الذين كذبهم قومهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ‏}‏ يعني‏:‏ أيسوا من إيمان قومهم أن يؤمنوا ‏{‏وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا‏}‏ قرأ أهل الكوفة عاصم، وحمزة، والكسائي، ‏{‏كُذِبُوا‏}‏ بتخفيف الذال‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالتشديد‏.‏ وروى الأعمش، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، أنه قرأ‏:‏ ‏{‏كُذِبُوا‏}‏ بالتخفيف‏.‏ ويقال‏:‏ لما أيست الرسل، أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا عليهم، جاءهم بالنصرة‏.‏ وروى ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا‏}‏ قال‏:‏ كانوا بشراً، فضعفوا، وسئموا، وظنوا أنهم قد كذبوا، وأشار بيده إلى السماء‏.‏ قال ابن أبي مليكة‏:‏ فذكرت ذلك لعروة‏.‏ فقال‏:‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ معاذ الله ما حدث شيئاً إلا وعلم الله ورسوله أنه سيكون قبل أن يموت‏.‏ قالت‏:‏ ولكن نزل الأنبياء البلاء حتى خافوا أن يكون من معهم، كذبوهم من المؤمنين؛ وكانت تقرأ ‏{‏قد كُذِّبُوا‏}‏ بالتشديد‏.‏ وعن عائشة قالت‏:‏ استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، أن يصدقوهم، وظنوا أن من قد آمن بهم من قومهم، قد كذبوهم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الذي قالت عائشة أحسنها في الظاهر، وأولاها بأنبياء الله تعالى ‏{‏جَاءَهُمْ نَصْرُنَا‏}‏ أي‏:‏ للأنبياء بالنصرة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءَ‏}‏ يعني‏:‏ من آمن بالأنبياء‏.‏ قرأ عاصم وابن عامر ‏{‏فَنُجِّيَ‏}‏ بنون واحدة مع التشديد‏.‏ وقرأ الباقون بالنونين، وأصله ‏{‏فَنُنْجِيَ‏}‏ بالنونين، إلا أن من قرأ بنون واحدة، أدغم إحداهما في الأُخرى ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا‏}‏ يعني‏:‏ عذابنا ‏{‏عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الكافرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 111‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ في قصة يوسف وإخوته ‏{‏عِبْرَةٌ لاُِولِى الأَلْبَابِ‏}‏ يعني‏:‏ لذوي العقول‏.‏ يعني‏:‏ عجيبة لمن له عقل، لكيلا يحسد أحد أحداً‏.‏ ويقال‏:‏ لمن أراد أن يعتبر بيوسف، ويقتدي به، ولا يكافئ أحداً بسيئة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏عبرة‏}‏ يعني‏:‏ دلالة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يؤمن به ‏{‏مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى‏}‏ يعني‏:‏ مثل هذا الكلام لا يكون اختلاقاً وكذباً ‏{‏وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ من الكتب التوراة والإنجيل ‏{‏وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ يعني‏:‏ بيان الحلال والحرام ‏{‏وَهُدًى‏}‏ من الضلالة ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ يعني‏:‏ رحمة من العذاب ‏{‏لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يصدقون بتوحيد الله تعالى، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن‏.‏

سورة الرعد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏المر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أنا الله أعلم وأرى، ويقال‏:‏ معناه أنا الله أرى ما تحت العرش إلى الثرى، وما بينهما‏.‏ ويقال‏:‏ أنا الله أعلم، وأرى ما لا يعلم الخلق، وما لا يرى‏.‏ ويقال‏:‏ أنا الله أعلم، وأرى ما يعملون، ويقولون‏.‏ ويقال‏:‏ هذا قسم أقسم الله به ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ‏}‏ قال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ التي قبل القرآن‏.‏ يعني‏:‏ التوراة والإنجيل ‏{‏وَالَّذِي‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ الْحَقُّ‏}‏ يعني‏:‏ الكتب التي قبل القرآن، والقرآن الذي أُنزل إليك، كله من الله تعالى، وهو الحق، والإيمان به واجب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏تلك آيات الكتاب‏}‏، يعني‏:‏ تلك آيات القرآن‏.‏ ومعناه‏:‏ هذه آيات الكتاب‏.‏ والذي أُنزل من ربك هو الحق يعني‏:‏ القرآن‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏تلك آيات الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ الأحكام، والحجج، والدلائل ‏{‏والذي أنزل إليك‏}‏ يعني‏:‏ جبريل، ليقرأ عليك من ربك الحق‏.‏ يعني‏:‏ اتبعوه، واعملوا به‏.‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يصدقون أنه من الله تعالى فلما ذكر أنهم لا يؤمنون بيّن في الدلائل التي توجب التصديق بالخالق‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها‏}‏ يعني‏:‏ ليس لها عمد ترونها‏.‏ وهذا قول الحسن وقتادة، رفعها الله تعالى بغير عمد وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير، معناه‏:‏ لها عمد، ولكن لا ترونها‏.‏ يعني‏:‏ أنتم ترونها بغير عمد في المشاهدة، ولكن لها عمد‏.‏ وكلا التفسيرين معناهما واحد‏.‏ لأن من قال‏:‏ إن لها عمداً، ولكن لا ترونها، يقول‏:‏ العمد هو قدرة الله تعالى التي تمسك السموات والأرض‏.‏

‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان فوق العرش حين خلق السموات والأرض، وقد ذكرناه من قبل ‏{‏وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ‏}‏ يعني‏:‏ ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل، ذلك لبني آدم ‏{‏كُلٌّ يَجْرِي لاَِجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ يقول‏:‏ يسير إلى وقت معلوم لا يجاوزه، وللشمس والقمر منازل، كل واحد منهما يغرب في كل ليلة في منزل ويطلع في منزل، حتى ينتهي إلى أقصى منازله ‏{‏يُدَبِّرُ الأمْرَ‏}‏ يعني‏:‏ يقضي القضاء، ويبعث الملائكة بالوحي، والتنزيل ‏{‏يُفَصِّلُ الآيَاتِ‏}‏ يقول‏:‏ يبيّن العلامات في القرآن ‏{‏لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تصدقون بالبعث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ‏}‏ يعني‏:‏ بسط الأرض من تحت الكعبة على الماء‏.‏ وكانت تكفي بأهلها، كما تكفي السفينة، فأرساها الله بالجبال، وهو قوله تعالى ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ‏}‏ يعني‏:‏ الجبال الثوابت من فوقها ‏{‏وَأَنْهَاراً‏}‏ يعني‏:‏ خلق في الأرض أنهاراً ‏{‏وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ يعني‏:‏ خلق فيها من ألوان الثمرات ‏{‏جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ‏}‏ يعني‏:‏ خلق من كل شيء لونين من الثمار، حلواً وحامضاً‏.‏ ومن الحيوان ذكراً وأنثى‏.‏

‏{‏يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ‏}‏ يعني‏:‏ يعلو الليل على النهار، ويعلو النهار على الليل، واقتصر بذكر أحدهما، إذا كان في الكلام دليل عليه‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏يُغَشِّي‏}‏ بنصب الغين، وتشديد الشين‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالجزم والتخفيف‏.‏

ثم بيّن أن ما ذكر من هذه الأشياء، فيه برهان وعلامات لمن تفكر فيها فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ فيما ذكر من صنعه ‏{‏لآيَاتٍ‏}‏ يعني‏:‏ لعبرات ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ في اختلاف الليل والنهار، فيوحّدونه‏.‏

ثم بيّن أن في الأرض علامات كثيرة، ودلائل كثيرة لوحدانيته، لمن له عقل سليم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِى الارض قِطَعٌ متجاورات‏}‏ يعني‏:‏ بالقطع الأرض السبخة، والأرض العذبة‏.‏ ‏{‏متجاورات‏}‏ يعني‏:‏ ملتزقات، متدانيات، قريبة بعضها من بعض، فتكون أرض سبخة، وتكون إلى جنبها أرض طيبة جيدة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏قِطَعٌ متجاورات‏}‏ أي‏:‏ قرى متجاورات‏.‏ ويقال‏:‏ العمران، والخراب، والقرى والمغاور‏.‏ ‏{‏وجنات مّنْ أعناب‏}‏ يعني‏:‏ الكروم ‏{‏وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صنوان وَغَيْرُ صنوان‏}‏ قرأ بعضهم‏:‏ بضم الصاد‏.‏ وقراءة العامة‏:‏ بالكسر‏.‏ وهما لغتان ومعناهما واحد‏.‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ الصنوان النخلة التي في أصلها نخلتان، وثلاث أصلهن واحدة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ النخل المتفرق والمجتمع ويقال ‏{‏صنوان‏}‏ النخلة التي بجنبها نخلات وغير صنوان يعني‏:‏ المنفردة‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لاَ تُؤْذُونِي فِي العَبَّاسِ، فإِنَّهُ بَقِيةُ آبَائي، وإنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ»‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صنوان‏}‏ كلها بالضم على معنى الابتداء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ كلها بالكسر على معنى النعت للجنات‏.‏ ويقال‏:‏ على وجه المجاورة‏.‏ لأن الزرع لا يكون في الجنات‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الاكل‏}‏ يعني‏:‏ الماء، والتراب واحد‏.‏ وتكون الثمار مختلفة في ألوانها، وطعومها، لأنه لو كان ظهور الثمار بالماء والتراب، لوجب في القياس، أن لا تختلف الألوان والطعوم، ولا يقع التفاضل في الجنس الواحد إذا ثبت في مغرس واحد، وسقي بماء واحد، ولكنه صنع اللطيف الخبير‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هذا مثل لبني آدم، أصلهم من أب واحد، ومنهم صالح، ومنهم خبيث‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ فيما ذكر ‏{‏لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ أنه من الله تعالى‏.‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏يسقى‏}‏ و‏{‏***يُفَضَّلُ‏}‏ بالياء وقرأ عاصم وابن عامر في إحدى الروايتين‏:‏ ‏{‏صنوان يسقى‏}‏ بالياء بلفظ التذكير، ‏{‏وَنُفَضّلُ‏}‏ بالنون‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ تُسْقَى بالتاء ‏{‏وَنُفَضّلُ‏}‏ بالنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏5‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏6‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ‏(‏7‏)‏ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏

‏{‏وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ إن تعجب من تكذيب أهل مكة لك، وكفرهم بالله، ‏{‏فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ أعجب من ذلك قولهم‏.‏ ‏{‏أَءذَا كُنَّا تُرَابًا‏}‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعْجَبْ‏}‏ مما أوحينا إليك من القرآن، تعجب‏.‏ قولهم‏:‏ ‏{‏أَءذَا كُنَّا تُرَابًا‏}‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ إكذاباً منهم بالبعث‏.‏ قرأ الكسائي‏:‏ ‏{‏أَءذَا‏}‏ بهمزتين على وجه الاستفهام، ‏{‏أَنَاْ *** لَفِى خَلْقٍ‏}‏ بهمزة واحدة‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة كليهما‏:‏ بهمزتين‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏***آيِذَا‏}‏ بهمزة واحدة مع المد، وكذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا‏}‏ بالمد‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏***أَيِذَا‏}‏ بالياء، وكذلك ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا‏}‏، وقرأ ابن عامر ‏{‏أَن كُنَّا‏}‏ بهمزة واحدة بغير استفهام، ‏{‏أَيُّنَا‏}‏ بالهمزة والمد‏.‏ قال‏:‏ لأنهم لم يشكوا في الموت، وإنما شكوا في البعث، فينبغي أن يكون الاستفهام في الثاني دون الأول‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ جحدوا بوحدانية الله تعالى ‏{‏وَأُوْلَئِكَ الاغلال فِى أعناقهم‏}‏ يعني‏:‏ تغل أيمانهم على أعناقهم بالحديد في النار ‏{‏وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ أي‏:‏ دائمون فيها، ولا يخرجون منها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم العذاب، استهزاءً منهم بذلك، فنزل ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة‏}‏ يعني‏:‏ بالعذاب قبل العافية ‏{‏وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات‏}‏ يعني‏:‏ العقوبات، والنقمات قبل قريش فيمن هلك، وأصل المثلة‏:‏ الشبه، وما يعتبر به، وجمعه المثلات ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ‏}‏ يقول‏:‏ تجاوز ‏{‏لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ على شركهم إن تابوا‏.‏ ويقال‏:‏ بتأخير العذاب عنهم ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب‏}‏ لمن مات منهم على شركه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ايَةٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ يعني‏:‏ هلاّ أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم علامة من ربه لنبوته‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ‏}‏ يعني‏:‏ مخوف، ومبلغ لهذه الأمة الرسالة ‏{‏وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ داعٍ يدعوهم إلى الضلالة، أو إلى الحق‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ‏}‏ وأنا الهادي‏.‏ وقال سعيد بن جبير الهادي، هو الله‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم هو نذير، وهو الهادي‏.‏ يعني‏:‏ يدعوهم إلى الهدى‏.‏ ‏{‏وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ لكل قوم نبي‏.‏ قرأ ابن كثير‏.‏ ‏{‏هَادِيَ‏}‏ بالياء عند الوقف‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِىٍّ وَلاَ وَاقٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 37‏]‏ وقرأ الباقون‏:‏ بغير ياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى‏}‏ ذكراً أو أُنثى، ويعلم ما في الأرحام سوياً أو غير سوي‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الارحام‏}‏ يعني‏:‏ ما تنقص الأرحام من تسعة أشهر في الحمل ‏{‏وَمَا تَزْدَادُ‏}‏ يعني‏:‏ على التسعة أشهر في ذلك الحمل ‏{‏وَكُلُّ شَئ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ‏}‏ قال قتادة‏:‏ رزقهم، وأجلهم، وقال ابن عباس‏.‏ من الزيادة، والنقصان، والمكث في البطن، والخروج، كل ذلك بمقدار قدره الله تعالى، فلا يزيد على ذلك‏.‏ وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الارحام‏}‏ يعني‏:‏ الحامل إن ترى الدم نقص من الولد، وإن لم تر الدم، يزيد في الولد‏.‏ وروى أسباط عن السدي قال‏:‏ إن المرأة إذا حملت، واحتبس حيضها، كان ذلك الدم رزقاً للولد‏.‏ فإذا حاضت على ولدها، خرج وهو أصغر من الذي لم تحض عليه ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الارحام‏}‏ وهي الحيضة التي على الولد، ‏{‏وَمَا تَزْدَادُ‏}‏‏.‏ فحين يستمسك الدم، فلا تحيض وهي حبلى‏.‏ قال الفقيه‏:‏ هذا الذي قال السدي‏.‏ إن الحامل تحيض، إنما هو على سبيل المجاز، لأن دم الحامل لا يكون حيضاً‏.‏ ولكن معناه‏:‏ إذا سال منها الدم فيكون ذلك استحاضة‏.‏ قال‏:‏ حدثنا الخليل بن أحمد، قال‏:‏ حدثنا ابن خزيمة‏.‏ قال‏:‏ حدثنا عليّ‏.‏ قال‏:‏ حدثنا إسماعيل، عن عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر رضي الله عنه يقول‏:‏ قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ «مِفْتَاحُ الغَيبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ الله، لاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأرْحَامُ أَحَدٌ إلاَّ الله، وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ أحَدٌ إلاَّ الله، ولاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أحَدٌ إلاَّ الله، ولاَ تَدْرِي نَفْسٌ بأَيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إلاَّ الله، ولاَ يَعْلَمُ أَحْدٌ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إلاَّ الله»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ‏(‏9‏)‏ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ‏(‏10‏)‏ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ‏(‏11‏)‏ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ يعني‏:‏ ما غاب عن العباد، وما شاهدوه‏.‏ ويقال‏:‏ عالم بما كان، وبما لم يكن‏.‏ ويقال‏:‏ عالم السر والعلانية ‏{‏الكبير المتعال‏}‏ يعني‏:‏ هو أكبر وأعلى من أن تكون له صاحبة وولد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول‏}‏ يعني‏:‏ سواء عند الله من أسر القول ‏{‏وَمَنْ جَهَرَ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من أخفى العمل، وأعلن العمل ‏{‏وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ‏}‏ يعني‏:‏ في ظلمة الليل ‏{‏وَسَارِبٌ بالنهار‏}‏ أي‏:‏ منصرف في حوائجه‏.‏ يقال‏:‏ سَرَبَ يَسْرُبُ إذا انصرف، ومعناه المختفي، والظاهر عنده سواء‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المستخفي؛ المختفي بالمعصية، والسارب يعني‏:‏ الظاهر بالمعاصي ‏{‏لَهُ معقبات‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ له حافظات ‏{‏مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ يعني‏:‏ بأمر الله حتى ينتهوا به إلى المقادير‏.‏ فإذا جاءت المقادير، خلوا بينه وبين المقادير، المعقبات يعني‏:‏ الملائكة يعقب بعضهم بعضاً في الليل والنهار، إذا مضى فريق خلفه بعده فريق‏.‏ وروي عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، ‏{‏لَهُ معقبات‏}‏ قال‏:‏ الملائكة يتعاقبون بالليل والنهار ‏{‏يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ يعني‏:‏ بأمر الله‏.‏ ويقال‏:‏ للمؤمن طاعات وصدقات ‏{‏يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ أي‏:‏ من عذاب الله عند الموت، وفي القبر، وفي يوم القيامة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ‏}‏ يعني‏:‏ لا يبدل ما بقوم من النعمة التي أنعمها عليهم ‏{‏حتى يُغَيّرُواْ‏}‏ يقول‏:‏ يبدلوا ‏{‏مَا بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ بترك الشكر‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ كفار مكة نظيرها في الأنفال‏.‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 53‏]‏، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فلم يعرفوها، فغيّر ما بهم، فجعل ذلك لأهل المدينة‏.‏ قال أبو الليث رحمه الله‏:‏ في الآية تنبيه لجميع الخلق، ليعرفوا نعمة الله عليهم، ويشكروه، لكيلا تزول عنهم النعم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ‏}‏ يعني‏:‏ إذا أراد بهم عذاباً أو هلاكاً فلا مردّ لقضائه ‏{‏وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏ يعني‏:‏ ليس لهم من عذابه ولي، ولا قريب يمنعهم، ولا ملجأ يلجؤون إليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا وَطَمَعًا‏}‏ يعني‏:‏ خوفاً للمسافر، وطمعاً للمقيم الحاضر، ويقال‏:‏ خوفاً لمن يخاف ضرر المطر، وطمعاً لمن يحتاج إلى المطر، لأن المطر يكون لبعض الأشياء ضرراً، ولبعضها رحمة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيُنْشِئ السحاب الثقال‏}‏ يعني‏:‏ يخلق السحاب الثقال من الماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ‏(‏13‏)‏ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بأمره‏.‏ قال‏:‏ عمر بن محمد‏.‏ قال‏:‏ حدثنا أبو بكر الواسطي‏.‏ قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن يوسف‏.‏ قال‏:‏ حدثنا وكيع عن عمرو بن أبي زائدة أنه قال‏:‏ سمعت عكرمة يقول‏:‏ الرعد ملك يزجر السحاب بصوته كالحادي بالإبل‏.‏ وروى وكيع، عن المسعودي، عن سلمة بن كهيل، أنه سئل عن الرعد فقال‏:‏ هو ملك يزجر السحاب‏.‏ وسئل عن البرق‏:‏ فقال هو في مخاريق بأيدي الملائكة‏.‏ وسئل وهب بن منبه عن الرعد فقال‏:‏ ثلاث ما أظن أحداً يعلمهن إلا الله عز وجل‏:‏ الرعد، والبرق، والغيث، وما أدري من أين هن، وما هن‏.‏ فقيل له‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء‏}‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ ولا ندري أنزل من السماء أو من السحاب، ولقحت فيه أو يخلق في السحاب فيمطر‏.‏ وسمى السحاب سماء‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرعد فقال‏:‏ «هُوَ مَلِكٌ فِي السَّمَاءِ، وَاسْمُهُ الرَّعْدُ، وَالصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ هوُ زَجْرُ السَّحَابِ، وَيُؤَلِّفُ بَعْضُهُ إِلى بَعْضٍ فَيَسُوقُهُ»‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ‏}‏ يقول‏:‏ يسبح الملائكة كلهم خائفين لله تعالى ‏{‏وَيُرْسِلُ الصواعق‏}‏ وهي نار من السماء لا دخان لها ‏{‏فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء‏}‏ من خلقه ‏{‏وَهُمْ يجادلون فِى الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال‏}‏ قال ابن عباس هو الله تعالى، ‏{‏شَدِيدُ المحال‏}‏ يعني‏:‏ شديد العقاب‏.‏ ويقال‏:‏ أصله في اللغة الحيلة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ الحيلة، والقوة‏.‏ ويقال‏:‏ هو شديد القدرة، والعذاب‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏المحال‏}‏ في اللغة هو الشدة‏.‏ ويقال بعضهم‏:‏ هو كناية عن الذي يجادل، ويكون معناه ‏{‏فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء‏}‏ ‏{‏وَهُمْ يجادلون فِى الله‏}‏ يعني‏:‏ يصيبهم في حال جدالهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد أخبرني من أي شيء ربك أمن لؤلؤ هو‏؟‏ فأرسل الله عليه صاعقة فقتلته، فنزل ‏{‏وَهُمْ يجادلون فِى الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال‏}‏ يعني‏:‏ شديد العداوة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ دخل عامر بن الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ أسلم على أن لك المدر، ولي الوبر‏.‏ يعني‏:‏ لك ولاية القرى، وليَ ولاية البوادي فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَنْتَ مِنْ المُسْلِمِينَ لَكَ مَا لِلْمُسْلِمينَ، وَعَلَيْكَ مَا عَلَيْهِمْ»‏؟‏ قال عامر‏:‏ لك الوبر، ولي المدر‏.‏ فأجابه بمثل ذلك‏.‏ قال عامر‏:‏ ولي الأمر من بعدك‏.‏ فأجابه بمثل ذلك‏.‏ فغضب عامر وقال‏:‏ لأملأنها عليك رجالاً ألفا رجل أشعر، وألفا أمرد، فخرج ولقي أربد بن قيس، فقال له ادخل على محمد وآلهه، وأنا أقتله فدخلا عليه، فجعل عامر يسأله ويقول‏:‏ أخبرنا يا محمد عن إلهك، أمن ذهب هو أم من فضة‏؟‏ فلما طال حديثه قاما وخرجا، فقال مالك لم تقتله‏؟‏ قال‏:‏ كلما أردت أن أقتله وجدتك بيني وبينه‏.‏

فجاء جبريل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فدعا عليه، فأصابته صاعقة فقتلته‏.‏ فنزل ‏{‏وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يجادلون فِى الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الحق‏}‏ يعني‏:‏ كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، يدعو الخلق إليها‏.‏ ويقال معناه‏:‏ له على العباد دعوة الحق أن يدعوه فيجيبهم ‏{‏والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام والأوثان ‏{‏لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَئ‏}‏ يقول‏:‏ لا ينفعهم بشيء ‏{‏إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ كمادٍ يديه ‏{‏إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ‏}‏ والعرب تقول لمن طلب شيئاً لا يجده، هو كقابض الماء‏.‏ يعني‏:‏ كمن هو مشرف يدعو الماء بلسانه، ويشير إليه ‏{‏وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ‏}‏ يعني‏:‏ فلا يناله أبداً‏.‏ وقال مجاهد كالذي يشير بيده إلى الماء، فيدعوه بلسانه، فلا يجيبه أبداً‏.‏ هذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك الذي عبد مع الله إلها آخر، أنه لا يجيبه الصنم، ولا ينفعه كمثل العطشان الذي ينظر إلى الماء من بعيد، ولا يقدر عليه ‏{‏وَمَا دُعَاء الكافرين‏}‏ يقول‏:‏ ما عبادة أهل مكة ‏{‏إِلاَّ فِى ضلال‏}‏ يضل عنهم، إذا احتاجوا إليه في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏15‏)‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏16‏)‏ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ‏(‏17‏)‏ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى * السموات والارض‏}‏ من الخلق ‏{‏طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ قال قتادة‏:‏ أما المؤمن فيسجد لله طائعاً، وأما الكافر فيسجد‏.‏ كرهاً ويقال‏:‏ أهل الإخلاص يسجدون لله طائعين، وأهل النفاق يسجدون له كرهاً، ويقال‏:‏ من ولد في الإسلام يسجد طوعاً، ومن سبي من دار الحرب يسجد كرهاً‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏يَسْجُدُ * لِلَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ يخضع له من في السموات والأرض، ولا يقدر أحد أن يغير نفسه عن خلقته ‏{‏وظلالهم‏}‏ يعني‏:‏ تسجد ظلالهم، وسجود الظل دورانه‏.‏ ويقال‏:‏ ظل المؤمن يسجد معه، وظل الكافر يسجد لله تعالى إذا سجد الكافر للصنم‏.‏ ‏{‏بالغدو والاصال‏}‏ يعني‏:‏ أول النهار، وآخره، وقال أهل اللغة‏:‏ الأصيل ما بين العصر إلى المغرب، وجمعه أُصُل والآصال جمع الجمع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن رَّبُّ *** السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ قل يا محمد لأهل مكة من خالق السموات والأرض‏؟‏ فإن أجابوك وإلا ف ‏{‏قُلِ الله‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ يعني‏:‏ أفعبدتم غيره ‏{‏لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير‏}‏ أي‏:‏ كما لا يستوي الأعمى والبصير، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن‏.‏ ويقال‏:‏ الأعمى الجاهل الذي لا يتفكر، ولا يرغب في الحق، والبصير العالم الذي يتفكر، ويرغب في الحق‏.‏

‏{‏أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور‏}‏ أي‏:‏ كما لا تستوي الظلمات والنور، فكذلك لا يستوي الإيمان والكفر‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏يَسْتَوِى‏}‏ بلفظ التذكير بالياء‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث، لأن تأنيثه ليس بحقيقي، فيجوز أن يذكر ويؤنث، ولأن الفعل مقدم على الاسم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء‏}‏ يعني‏:‏ بل جعلوا لله شركاء من الأصنام‏.‏ ويقال‏:‏ معناه أجعلوا لله شركاء، والميم صلة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ هل خلق الأوثان خلقاً كما خلق الله فاشتبه عليهم خلق الله تعالى من خلق غيره، فلما ضرب الله مثلاً لآلهتهم سكتوا‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الله خالق كُلّ شَئ‏}‏ قل يا محمد الله عز وجل خالق جميع الموجودين ‏{‏وَهُوَ الواحد القهار‏}‏ يعني‏:‏ الذي لا شريك له، القاهر لخلقه، القادر عليهم‏.‏ ثم ضرب الله تعالى مثلاً للحق والباطل، لأن العرب كانت عادتهم أنهم يوضحون الكلام بالمثل، وقد أنزل الله تعالى القرآن بلغة العرب، فأوضح لهم الحق من الباطل بالمثل فقال‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء‏}‏ يعني‏:‏ المطر ‏{‏فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا‏}‏ يعني‏:‏ سال في الوادي الكبير بقدره، وفي الوادي الصغير بقدره، فشبه القرآن بالمطر، وشبه القلوب بالأودية، وشبه الهدى بالسيل ‏{‏فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا‏}‏ يعني‏:‏ عالياً على الماء‏.‏

فشبه الزبد بالباطل يعني‏:‏ احتملته القلوب على قدر أهوائها باطلاً كبيراً‏.‏ فكما أن السيل يجمع كل قدر، كذلك الأهواء تحتمل الباطل، وكما أن الزبد لا وزن له، فكذلك الباطل لا ثواب له‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء‏}‏ يعني‏:‏ يذهب كما جاء‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏جُفَاء‏}‏ أي سريعاً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏جُفَاء‏}‏ أي يابساً، فلا ينتفع به، ويقذفه السيل‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الجفاء ما رمى به الوادي في جنباته‏.‏ ويقال‏:‏ جفأت القدر بزبدها إذا ألقيته عنها ‏{‏وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ يبقى الماء الصافي‏.‏ فكذلك الإيمان واليقين ينتفع به أهله في الآخرة، كما ينتفع بالماء الصافي في الدنيا‏.‏ والباطل، لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

ثم ضرب مثلاً آخر بالذهب والفضة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار‏}‏ من الذهب والفضة ‏{‏ابتغاء حِلْيَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ النحاس ‏{‏حِلْيَةٍ‏}‏ تلبسونها‏.‏ يخرج منها الخبث، ويبقى الذهب والفضة خالصاً‏.‏

ثم ضرب مثلاً آخر فقال‏:‏ ‏{‏أَوْ متاع زَبَدٌ مّثْلُهُ‏}‏ يعني‏:‏ النحاس، والحديد، والصفر يزول عنها الخبث، ويبقى الصفر والحديد خالصاً، فيتخذ منها المتاع‏.‏ فهذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد، كما يضمحل هذا الزبد، ويبقى خالص الماء، وخالص الذهب، والفضة، والحديد، والصفر، فكذلك يضمحل الباطل عن أهله‏.‏ وكما يمكث الماء في الأرض، ويخرج نباتها، وكما يبقى خالص الذهب والفضة حين يدخلان النار، فكذلك يبقى الحق، وثوابه لصاحبه‏.‏ وقال القتبي في قوله‏:‏ ‏{‏فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا‏}‏ قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل‏.‏ يقول‏:‏ الباطل وإن ظهر على في بعض الأحوال وعلا فلان فإن الله سيمحقه، ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله، مثل مطر سال في الأودية بقدرها ‏{‏فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا‏}‏ أي‏:‏ عالياً على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق‏.‏ ومن جواهر الأرض التي تدخل الكير، توقدون عليها، بمعنى الذهب والفضة للحلية‏.‏ ‏{‏أَوْ متاع‏}‏ يعني‏:‏ الشبه، والحديد، والآنك، يكون للآنية له خبث يعلوها مثل زبد الماء‏.‏ فأما الزبد، فيذهب جفاء يتعلق بأصول الشجر، وكنبات الوادي، وكذلك خبث الفلز يعني‏:‏ الجوهر يقذفه، فهذا مثل الباطل‏.‏ وأما ما ينفع الناس، وينبت المرعى، فيمكث في الأرض‏.‏ فكذلك الصفر من الفلز يبقى صالحاً فهو مثل الحق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل‏}‏ على وجه التقديم والتأخير‏.‏ يعني‏:‏ هكذا يضرب الله المثل للحق والباطل‏.‏ ويقال‏:‏ معناه هكذا يبيّن الحق من الباطل ‏{‏فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِى الارض‏}‏ على معنى التقديم والتأخير، وقد ذكرناه من قبل ‏{‏كذلك يَضْرِبُ الله الامثال‏}‏ يعني‏:‏ يبيّن الله الأشباه، ويوضح الطريق، ويقيم الحجة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ الحسنى‏}‏ يعني‏:‏ للذين أجابوا ربهم بالطاعات في الدنيا، لهم الجنة في الآخرة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ‏}‏ يعني‏:‏ لم يجيبوه، ولم يطيعوه في الدنيا ‏{‏لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً‏}‏ يوم القيامة ‏{‏وَمِثْلَهُ مَعَهُ‏}‏ يعني‏:‏ وضعفه معه ‏{‏لاَفْتَدَوْاْ بِهِ‏}‏ يقول‏:‏ لفادوا به أنفسهم من العذاب، ولو فادوا به لا يقبل منهم ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب‏}‏ يعني‏:‏ شديد العقاب‏.‏ ويقال‏:‏ المناقشة في الحساب‏.‏ وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال‏:‏ أتدرون ما سوء الحساب‏؟‏ قالوا لا‏.‏ قال هو الذنب يحاسب عليه العبد ثم لا يغفر له‏.‏ وعن الحسن أنه سئل عن سوء الحساب، وقال‏:‏ يؤخذ العبد بذنوبه كلها فلا يغفر له منها ذنب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ أي‏:‏ مصيرهم ومرجعهم إلى جهنم ‏{‏وَبِئْسَ المهاد‏}‏ يعني‏:‏ الفراش من النار ويقال بئس موضع القرار في النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 25‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ‏(‏21‏)‏ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏22‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ‏(‏23‏)‏ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏24‏)‏ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق‏}‏ يعني‏:‏ يعلم أن القرآن الذي أنزل من الله تعالى هو الحق ‏{‏كَمَنْ هُوَ أعمى‏}‏ يعني‏:‏ كمن هو لا يعلم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَعْلَمُ‏}‏ أن ما ذكر من المثل حق كمن لا يعلم‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ يعني‏:‏ المثل‏.‏ ويقال‏:‏ أفمن يرغب في الحق حتى يعلم أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق ‏{‏كَمَنْ هُوَ أعمى‏}‏ يعني‏:‏ كمن لا يرغب فيه ‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الالباب‏}‏ يعني‏:‏ يتعظ بما أنزل إليك من القرآن ذوو العقول من الناس، وهم المؤمنون‏.‏

ثم وصفهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله‏}‏ يعني‏:‏ العهد الذي بينهم وبين الله تعالى والعهد الذي بينهم وبين الناس ‏{‏وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق‏}‏ يعني‏:‏ الميثاق الذي أخذ عليهم‏.‏ يوم الميثاق‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ أهل الكتاب الميثاق الذي أخذ عليهم في كتابهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ يعني‏:‏ يصلون الأرحام، ولا يقطعونها، وقال‏:‏ يعني‏:‏ الإيمان بجميع الأنبياء ‏{‏وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يمتنعون عما نهاهم الله تعالى عنه، والخشية من الله، الامتناع عن المحرمات والمعاصي ‏{‏وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ‏}‏ يعني‏:‏ شدته ‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ صبروا عن المعاصي، وصبروا عن أداء الفرائض، وصبروا على المصائب والشدائد، وصبروا على أذى الكفار والمنافقين ‏{‏ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ صبروا على طلب مرضاة الله تعالى ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أتموها بركوعها، وسجودها في مواقيتها ‏{‏وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من الأموال ‏{‏سِرّا وَعَلاَنِيَةً‏}‏ يعني‏:‏ يتصدقون في الأحوال كلها ظاهراً، وباطناً‏.‏ ويقال‏:‏ مرة يتصدقون سراً مخافة الرياء، ومرة يتصدقون علانية لكي يقتدى بهم‏.‏ ويقال‏:‏ يتصدقون صدقة التطوع في السر، وزكاة الفريضة علانية ‏{‏وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة‏}‏ يقول‏:‏ يدفعون بالكلام الحسن السيئة‏.‏ يعني‏:‏ الكلام القبيح‏.‏ فهذا كله صفة ذوي الألباب، وهم الذين استجابوا لربهم‏.‏

ثم بيّن ثوابهم، ومرجعهم في الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار‏}‏ يعني‏:‏ لهم الجنة، وهم المهاجرون، والأنصار، ومن كان في مثل حالهم إلى يوم القيامة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ‏}‏ يعني‏:‏ ومن آمن، وأطاع الله تعالى ‏{‏مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وذرياتهم‏}‏ يدخلون أيضاً جنات عدن وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏والذين ءَامَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ ألتناهم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَئ كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ‏}‏ ويسلمون عليهم، ويقولون‏:‏ ‏{‏سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ‏}‏ على أمر الله تعالى وطاعته ‏{‏فَنِعْمَ عقبى الدار‏}‏ يعني‏:‏ نعم العاقبة الجنة‏.‏

فقد بيّن حال الذين استجابوا لربهم، والذين يعلمون أن الذي أنزل إليك هو الحق‏.‏

ثم بيّن حال الذين لم يستجيبوا له، وهم الذين ينقضون الميثاق، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه‏}‏ يعني‏:‏ من بعد تأكيده، وتغليظه، يعني‏:‏ بعد إقرارهم بالتوحيد يوم الميثاق ‏{‏وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ يعني‏:‏ الأرحام‏.‏ ويقال‏:‏ الإيمان بالنبيّين ‏{‏وَيُفْسِدُونَ فِى الارض‏}‏ بالدعاء إلى عِبادة غير الله تعالى ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللعنة‏}‏ يعني‏:‏ يلعنهم في الدنيا والآخرة ‏{‏وَلَهُمْ سُوء الدار‏}‏ يعني‏:‏ سوء المرجع‏.‏ ويقال‏:‏ لهم اللعنة‏.‏ يعني‏:‏ هم مطرودون من رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة، ‏{‏وَلَهُمْ سُوء الدار‏}‏ يعني‏:‏ عذاب النار في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ يوسع الرزق لمن يشاء من عباده، ‏{‏وَيَقْدِرُ‏}‏ يعني‏:‏ يقتر في الرزق‏.‏ يعني‏:‏ يختار للغني الغنى، وللفقير الفقر، لأنه يعلم أن صلاحه فيه‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إن الله تعالى خلق الخلق، وهو بهم عليم‏.‏ فجعل الغنى لبعضهم صلاحاً، وجعل الفقر لبعضهم صلاحاً، فذلك الخيار للفريقين وقال الحسن البصري‏:‏ ما أحد من الناس يبسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه، وما أمسكها الله تعالى عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا‏}‏ يقول‏:‏ استأثروا الدنيا على الآخرة ‏{‏وَمَا الحياة الدنيا فِى الاخرة إِلاَّ متاع‏}‏ يعني‏:‏ الدنيا بمنزلة الأواني التي لا تبقى مثل السكرجة، والزجاجة، وأشباه كل ذلك التي يتمتع بها ثم تذهب، فكذلك هذه الدنيا تذهب وتفنى‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ كَمَثَلِ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُم أصْبُعَهُ هذه فِي اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجعُ»‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏إِلاَّ متاع‏}‏ أي‏:‏ قليل ذاهب، وهكذا قال مقاتل‏.‏